د. أحمد مرسي : دم المأثورات الشعبية مفرق بين قبائل وزارة الثقافة

د. أحمد مرسي : دم المأثورات الشعبية مفرق بين قبائل وزارة الثقافة

أخبار الأدب - بتاريخ 08/10/2016 - قسم أحداث - صفحة - بقلم عائشة المراغي

د. أحمد مرسي : دم المأثورات الشعبية مفرق بين قبائل وزارة الثقافة

 

حوار : عائشة المراغي

08/10/2016 10:17:24 ص

   

رغم ملامح وجهه الباسمة؛ إلا أنك من الوهلة الأولي بعد رؤيته يمكنك معرفة حجم الهموم التي تثقل كاهله. يفضل ألا يتحدث كثيرا عملا بالمثل الذي يردده "خلي زكايب الهم مربوطة"، لكن بمجرد أن تتمكن من حل ربطتها لن تستطع سوي الغوص  في دوامات فكره، لتحمل معه هذا الهم الذي يخص كل من يعيش في هذا الوطن.

التحق د.أحمد مرسي بقسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة القاهرة، واختار أن يتخصص في الأدب الشعبي، حيث أدرك أن فنون طفولته التي عايشها أثناء ذهابه للغيط وجمع القطن وسماع الأغاني والحكايات الشعبية في أفراح قريته بكفر الشيخ؛ يمكن أن تدرس مثل بقية فنون الأدب. بعد تخرجه عام 1963 شرع في إعداد رسالة الماجستير، وكان أول من يحصل علي الدرجة بعمل ميداني وليس بجمع مادة من الكتب، حيث أقام عاما في البرلس ليسجل أغانيهم، فاستهواه هذا وتعامل بوصفه صاحب رسالة، عليه أن يعمل للحفاظ علي هذا التراث. كانت تلك مخاطرة نصحه الكثيرون بألا يضيع وقته فيها، بعد 50 عاما يقول: "يا ليتني استمعت لهم، ربما لم أكن لأحمل هذا الهم الثقيل، بأن أدافع عن أناس لا يعرفهم أحد لكنهم جديرون بالاحترام ولا يقل ما يقولونه إنسانيا وفنيا عما يكتبه المبدعون الآخرون". حول تلك الهموم وأسبابها وما آلت إليه الأوضاع بمرور الزمن؛ يدور حوارنا معه، قبل أيام من افتتاح المؤتمر الدولي للثقافة الشعبية الذي يقيمه المجلس الأعلي للثقافة.
بداية؛ ما علاقة الأدب الشعبي بالفنون الشعبية؟
مصطلح "فنون شعبية" غير صحيح، لأنه من البداية كانت ترجمته خاطئة، ولم يكن هناك اتفاق علي معني كلمة "فلكلور" في الثقافة العربية، ومر بعدد من المراحل، فالأدب الشعبي جزء من المصطلح الأكبر "فلكلور"؛ الذي ترجمه مجمع اللغة العربية بعد سنوات طويلة إلي "المأثورات الشعبية"، وهي الترجمة الصحيحة والأدق، لكن إلي أن توصلوا لتلك الترجمة كان قد جري في النهر ماء كثير من المصطلحات، بعضها لا علاقة له بأصل الكلمة، كالذي تُرجم له في بدايات القرن العشرين بسوريا، حيث فسر المترجمون الأوائل الفلكلور بـ"الحواديت" والأمثال والفوازير التي تقولها النساء، فأطلقوا عليها "دفتر النساء".
ومن أين جاء كل هذا اللغط في تفسير المصطلح؟
كان التركيز في البداية علي الجانب الذي يستخدم الكلمات أي "الأدب الشعبي"، لأن هذا لب الفلكلور، وعندما صاغ وليام جون توماس مصطلح فلكلور في منتصف القرن التاسع عشر كان مكونا من كلمتين هما " folk"بمعني شعب و" lore" التي ترجمت بالحكمة وهي لا تعني ذلك، وفيما بعد أطلق عليه العقاد "المرددات الشعبية" أي الأشياء التي يرددها الشعب ويتناقلها، وفي مناطق أخري استخدم مصطلح "التراث الشعبي"؛ وهو أقرب المصطلحات للفلكلور، لكن كلمة التراث تشير إلي الأشياء المادية في حين أن الفلكلور معنوي أيضا، إلي أن استخدموا في الخمسينيات مصطلح "فنون شعبية"، ولعدة عوامل أصبح الأكثر شيوعا؛ من بينها ثورة 1952 والاهتمام بالشعب وفنونه، وإنشاء مركز الفنون الشعبية عام 1957، فأصبح هذا المصطلح هو السائد والأكثر سهولة، كما ساعد علي انتشاره وشيوعه الإذاعة ثم التليفزيون، وكذلك زكريا الحجاوي؛ أحد أهم الشخصيات في تاريخ الاهتمام بالمأثورات الشعبية بشكل عام والفنون الشعبية في إطار مصطلح الفلكلور، حيث كان له دور كبير في جعل مستمع الراديو الذي ينصت لغناء أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وغيرهم؛ يستسيغ أيضا سماع صوت المدّاح والمغني الشعبي الذي يغني المواويل القصصية أو المدائح النبوية، لأنه حتي ذلك الوقت لم يكن يقدم في الراديو أي شيء من هذا القبيل، لكن الفنون الشعبية - للأسف - لخصت في الغناء والموسيقي والرقص.
أليست تلك الفنون جزءاً من المأثورات الشعبية؟
لا أبدا؛ المشكلة أن مصطلح فلكلور أصبح يشير للغناء والرقص وما تقدمه فرقة رضا، رغم أن هذه الفرقة وغيرها من الفرق التابعة لهيئة قصور الثقافة لا علاقة لها بالمأثورات الشعبية، هي فقط فرق تؤدي رقصاً استلهمه مصممها من الأصول الشعبية، لكن المرأة المصرية لا ترقص مثل فريدة فهمي مع كل الاحترام لها ولدورها في إكساب هذا الفن احترام الناس، ولا الرجل المصري يرقص هكذا.
هل تلقي الفنون الشعبية ما تستحق من اهتمام بها؟
للأسف لا؛ يؤسفني القول أنني "جعلت خدي مداس لمن يسوي وما يسواش" في هذا الوطن، لكي يكون لدينا أرشيف حقيقي لمأثوراتنا الشعبية، التي تتضمن أمثالا وحواديت وأغاني ومواويل وألغازا وفوازير، وفاءً للناس أولا، وثانيا لأن هذا هو الوجه الآخر لعملة الثقافة المصرية، حيث إن وجهها الأول خاص بما يقدمه المبدعون في الإنتاج الفكري والعلمي والأدبي كمحفوظ والغيطاني والحكيم وغيرهم الكثير.
هناك خطورة ومازالت مستمرة أن يضيع هذا المأثور فتضيع معه هويتنا وتذوب ، نتيجة لأن هذا المأثور الشعبي لا يلقي ما هو جدير به من تقدير واحترام وحرص علي صونه، رغم أن مصر كانت الدولة رقم 18 في التصديق علي اتفاقية اليونسكو لصون التراث الثقافي غير المادي عام 2003من بين 166 دولة علي مستوي العالم، لكن منذ ذلك الحين حتي الآن ما تم كان بجهود شخصية ومعاناة شديدة، بينما لم يلق هذا المصطلح ولو جزءاً من اهتمام الدولة أو مؤسساتها المختلفة المعنية بالثقافة.
وما الدور الذي يجب علي الدولة القيام به في ضوء هذه الاتفاقية؟
هذه الاتفاقية تنص علي أن هناك لجنة حكومية دولية تتولي العمل علي صون التراث الثقافي غير المادي للبلاد المختلفة باعتباره يمثل التراث الثقافي للإنسانية، يترتب علي ذلك أن يكون بكل دولة لجنة وطنية لصون التراث الثقافي غير المادي، لم تُشكَل هذه اللجنة إلا منذ أشهر قليلة، وهي لجنة نواياها طيبة جدا لكن ليست لديها أية إمكانيات لعمل أي شيء!! فالمأثورات الشعبية دمها مفرق بين قبائل وزارة الثقافة، ما بين الهيئة العامة لقصور الثقافة وأكاديمية الفنون وصندوق التنمية الثقافية وغيرهم، حاولنا أن نجعل هذه الجهات المتفرقة تنصهر في كيان واحد وكان هذا بعد جهد جهيد، فأصدر د.جابر عصفور عندما كان وزيراً للثقافة قراراً بإنشاء وحدة خاصة بصون التراث الثقافي غير المادي وتعزيز التنوع الثقافي، لكن بعد تغيير الوزارة لم تُنشأ اللجنة، ولا أعرف لماذا.
أين يكمن الخلل؟
في المنطق المتبع بكافة المؤسسات، فحينما نتحدث عن الشعب في الخطاب السياسي أو الاجتماعي أو غيره يكون مبجلا ومحترما وهو القائد الذي نتوجه إليه ونستمد منه وكل هذه الكلمات الإنشائية، لكن عندما يكون الأمر بنسبة شيء لهذا الشعب وجعلها "شعبية"؛ كأن نقول "مساكن شعبية"، "ملابس شعبية"، "أغاني شعبية" وغيرها، لا تلقي هذه النسبة نفس الاحترام الذي يلقاه الشعب في الخطاب، وإنما تكون مرادفة للتدهور والسوء والابتذال، وهي نفس الفكرة المتأصلة بالتبعية في أذهان الفئات المختلفة، لدرجة أن أحد الممثلين الكوميديين المحبوبين جدا كان مسئولا عن اختفاء آلة شعبية هي "الأرغول" حينما سخر منها ومن مغنيها في إحدي مسرحياته، مما أدي إلي أن العازفين عليها أصبحوا مثارا للسخرية، نتيجة لسيطرة وسائل الإعلام؛ التي تعاني أمر آخر يتمثل في جهل عدد كبير من مسئوليها بمعني المصطلح، كأن يقول المذيع "أغاني من الفلكلور الشعبي"، فليس هناك شئ كهذا وإنما فلكلور فقط، إلي جانب أنه يتم التعامل مع كلمة فلكلور بقدر كبير من السخرية والاستهزاء. ثم أننا لا نفهم لمن تروج وسائل الإعلام؟ فمؤخرا أنشئت إذاعة نفخر بها جميعا اسمها شعبيات، لكنها تقدم مضمونها دون استشارة أحد من المتخصصين ليقول ما هو الشعبي وما هو غير الشعبي، فأصبحت أية كلمات لا قيمة لها يطلق عليها شعبي.
كل هذا ينم عن حالة فصام ثقافي بين تعظيم الشعب واستخدام صفته في كل ما هو متدهور وسلبي وغير جدير بالاحترام، مثلما يشير استخدام كلمة "بلدي" كذلك، فكيف تنسب هذه الصفات إلي البلد؟ بالإضافة إلي أن الدولة نفسها علي مستوي الثقافة والتعليم لا تحترم هذا ولو بجزء ضئيل، والأمر ليس له علاقة بالتطور التكنولوجي فقط، فالياباني يعتز بيابانيته، وكذلك البريطاني والفرنسي وغيرهم، يعتز كل منهم بلغته وزيه وسلوكه وتصوره.......إلخ، هل نحن نعتز بأزيائنا وأغانينا الشعبية، و"الحواديت"، فأحد الحكماء في أفريقيا قال "عندما يموت راوي حكايات شعبية أفريقي فكأن مكتبة قد اندثرت"، أين نحن من ذلك؟
ما أسباب تلك الفجوة بين المنظومتين الثقافية والإعلامية؟
سببها أن الإعلام يتصور أنهم هكذا يخدمون الشعب، بينما هم يزيفون وعي الشعب لأنهم لا يعرفونه، فيقدمون له علي حسب تصوراتهم بدون سؤاله، وهذا ليس ناتجا عن عدم وعي؛ وإنما هو مقصود، لأنه عندما يكون هناك من يفهمون ولا يتم استشارتهم؛ ماذا يمكن أن نسمي ذلك؟ وعندما أنظر للقنوات اليوم، أتساءل وأريد أن يضع لي أحدا تعريفا لكل من خبير استراتيجي، خبير عسكري، خبير أمني، ناشط، فهناك مصطلحات تتداول بدون تعريف، وكل شخص يطلق علي نفسه أياً منها، هل هذا يسهم في تشكيل الوعي؟!
أين خريجو أقسام الأدب الشعبي والمأثورات؟
للأسف لا يستفاد منهم أبدا؛ رغم أن مادة الفلكلور تدرس لدينا في كليات الآداب، التربية، أقسام الاجتماع واللغة العربية، إلي جانب وجود معهد عال للفنون الشعبية كان لي شرف إنشائه، لكنه الآن غير ما خُطط له، فقد تم إنشاؤه كحلم من أجل إيجاد مدرسة مصرية وطنية تعني بجمع المأثور الشعبي المصري ودراسته واستلهامه. وبشكل شخصي؛ منذ 40 عاما ليس لي قضية إلا احترام هذا المأثور وجمعه جمعا علميا منظما واستخدامه في التعليم والثقافة، ولكن لا حياة لمن تنادي.
ألم تنشئ معهد الفنون الشعبية؟
أنا مدين في ذلك وغيره من الأعمال التي توليتها للناس؛ لأنهم لم يخذلوني قط وأحبوني أضعاف قدر حبي لهم، لذلك أشعر دائما بالواجب تجاههم، بينما من خذلوني باستمرار من هم مثلي وفيما فوق. ففي وقت من الأوقات كان بإمكاني طلب أي شيء أريده؛ لكني لم أطلب شيئا شخصيا؛ وإنما إنشاء معهد لدراسة المأثورات الشعبية، وحينها وضع حجر أساس لبناء معهد الفنون الشعبية في الستينيات ضمن معاهد أكاديمية الفنون، وكان مخصصا له 19 فدانا لبنائه ومعه متحف مفتوح يمثل أقاليم مصر الثقافية، صممه المهندس الشهير حسن فتحي. للأسف هذا لم يتم، وتم استباحة الأرض لأكثر من 40 عاما، حتي سعيت لأن تعود الأرض لوزارة الثقافة ويبني عليها المعهد في فترة فاروق حسني، فانشئ المعهد ولكن ليس كما خطط له؛ بدعوي عدم وجود إمكانيات مادية.
ما الفرق بين التجربة الشعبية في مصر ونظيرتها في البلدان التي ذهبت إليها؟
هذه مسألة لا تحتاج سلاحا نوويا أو تكنولوجيا متقدمة، لا تحتاج أكثر من وعي بأن هذا يمثل هويتي. عندما ذهبت إلي فنلندا عام 1974 وجدت أرشيف الفلكلور الفنلندي وحلمت حينها أن يكون لدينا واحد مثله، رغم أن هذه الدولة عدد سكانها 4 ملايين، إلا أن أرشيف الفلكلور لديهم يحتل قصرا مثل قصر عابدين في مصر، تم جمعه علي بطاقات في ذلك الوقت بلغت 4 ملايين بطاقة؛ مسجل عليها كافة أشكال التعبيرات الفلكلورية الفنلندية، لأنهم اعتبروا هذا هويتهم، فصنعوا ملحمة اسمها "كاليفالا" تشبه السيرة الهلالية عندنا، يتم تدريسها بإعداد مبسط في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعية، إلي جانب معهد مخصص لدراستها، في حين أننا لدينا عدد هائل من السير، هل انشيء معهد أو جهة لجمعها؟!
في الولايات المتحدة؛ يتبع لمكتبة الكونجرس "مركز الحياة والفلكلور الأمريكي"، يحتوي علي ملايين المواد المجموعة سواء أمريكية أو من فلكلور العالم، الذي يمكنهم من معرفة ثقافة المجتمعات، تفكيرهم وعاداتهم وتقاليدهم، التي يبني عليها المخطط الاجتماعي والسياسي رؤاه.
هل حاولت مصر محاكاة تلك التجارب؟
من كثرة إلحاحي علي السيد فاروق حسني؛ بأن الوثائق الشفهية تفوق في أهميتها الوثائق الكتابية، لأنها إذا ضاعت وماتت لن نستطيع الحصول عليها مرة أخري، أوكل لي رئاسة دار الكتب والوثائق لأقوم بتسجيل هذه الوثائق الشفهية، فأرسلت لمسئولي مكتبة الكونجرس وعقدت اتفاقية بإنشاء مركز مثل التابع لهم في دار الكتب والوثائق، فجاءوا وحصلنا علي منحتين لاثنين من الشباب لكي يذهبا لتلقي التدريب هناك؛ تمهيدا لإنشاء هذا المركز، بعدها بلغت سن المعاش ولم يحدث شيء، ذهب الشباب وعادوا، وانتهت المسألة بمجرد انتهاء فترة رئاستي.
لم أيأس؛ عاودنا الإلحاح علي فاروق حسني، فوفر لنا مكانا في بيت الخرزاتي المجاور لبيت السحيمي، وسعينا أنا ود.أسعد نديم ـــ رحمــة الله عليه ـــ للحصول علي منحة من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي الذي يرأسه المثقف والمحترم عبد اللطيف الحمد، فهو رجل محب للثقافة ويعرف قيمة الحفاظ علي الموروث، ومنذ عام 2007 حتي الآن يعمل الأرشيف بمنحة وليس من ميزانية وزارة الثقافة أو أي جهة ثقافية مصرية، ولولا العلاقة الشخصية بمسئولين محترمين ما كان لهذا أن يتم، فاروق حسني لأنه رأي ضرورة أن يتم ذلك وفر المكان، وقبول المنحة مرتبط بوزارة التعاون الدولي، وفي ذلك لابد أن نوجه التحية للسفيرة فايزة أبو النجا، التي سهلت كل إجراءات قبول المنحة وتخصيصها لهذا الأمر عندما كانت وزيرة للتعاون الدولي.
مرت تسع سنوات منذ 2007. أليست المنحة لمدة عامين فقط؟
بالفعل؛ المنحة كانت مدتها عامين ثم طلبنا التجديد، وهكذا. المنحة الحالية ستنتهي خلال عام ولا نعرف ما سيتم بعدها، لكنني  لا أنوي طلب ذلك مرة أخري، إذا أرادوا فليطلبوها هم، أنا شخصيا أشعر بقدر كبير من الخجل أن "أشحت" لأسجل تراثي.
من خلال خبرتك العملية والعلمية. ما التجربة الأفضل علي مستوي العالم فيما يخص المأثورات الشعبية؟
اليابان، فنلندا، وأمريكا التي لا يتجاوز تراثها 300 عام، وكذلك ألمانيا التي بدأ فيها الاهتمام بجمع الأغاني الشعبية و"الحواديت" ودراستها منذ القرن الثامن عشر، كما تمثل الدول الاسكندنافية نموذجا يحتذي في الاهتمام بتراثها الشعبي، ودول الاتحاد السوفييتي أيضا. لكننا لم نستفد من كل ذلك لأن الذين يعلمون لم يكونوا هم أصحاب القرار، وأصحاب القرار لم يهمهم أن يعرفوا أو يسألوا.
تلك التجارب لتطبيقها في مصر تتطلب اهتمام!! فإذا نظرنا لمنظومة واحدة كالصحافة مثلا؛ كم صفحة سنجدها مخصصة للرياضة في الصحف اليومية؟ وكم جريدة في المقابل تخصص صفحة علي الأقل للثقافة الشعبية؟ سنجد فقط الأهرام من خلال صفحة أسبوعية، وإذا حلّلنا الصفحة سنجد أكثر من نصفها لا علاقة له بالثقافة  الشعبية. علي جانب آخر نجد أن أحد أساليب إسرائيل في تكوين أرشيف لها من الحكايات الشعبية كان عمودا في صحيفة يومية اسمه "من فم الشعب"، فساعد هذا علي إيجاد وعي. حاولت عمل هذا مرتين في أخبار الأدب لكن الأمر توقف، كان الهدف من العمود شرح موال أو مثل وغيره، وطلبت من الناس إرسال ما لديهم لنشره، لكنهم لم يفعلوا، والعيب ليس فيهم؛ فأخبار الأدب في النهاية متخصصة، تختلف عن الأخبار أو الأهرام أو الجمهورية.
هناك دول تحقق عائدا أدبيا وماديا كبيرا من المأثورات الشعبية. أين نحن منها؟
قلنا هذا كثيراً؛ بأن المأثور الشعبي يمكن أن يكون مصدرا للدخل الاقتصادي وأساسا للتنمية، وأخبرنا ذلك لوزراء التنمية المحلية والثقافة والصناعة وغيرهم، أظن أن هذا المأثور إذا كان ملكا لوالدي لم أكن لأتعب نفسي هكذا، لا أقول ذلك كنوع من تزكية الذات وإنما أقوله وأنا متألم، فأنا لو ثري  بمعني الكلمة  لجمعت المأثور الشعبي المصري من أغاني وحواديت وأمثال وحرف وصناعات تقليدية، لأنه للأسف لا يوجد اهتمام من الجهات المسئولة بهذا المجال؛ فالمسرح التجريبي ومهرجانات السينما تصرف عليها أموال، لكن عندما يتعلق الأمر بتسجيل المأثورات الوطنية التي تتعرض للضياع والاندثار تصبح الدولة غير قادرة علي التمويل.
كيف لبلد مدين ويمر بهذه الظروف أن يقيم مهرجانا للمسرح التجريبي؟! بعض دول العالم لجأوا للتجريب لأن الأشكال المسرحية التقليدية استنفدت أغراضها عندهم، لكن هنا 99.9٪ من الشعب المصري ـــ رغم كرهي لهذه النسبة ــــ لم يدخل مسرحا في حياته، فالشعب المصري لا يعرف من المسرح سوي الأعمال التي تعرض بالتليفزيون. أما المسارح المنتشرة حاليا فكلها أنشئت لتوفير وظائف داخل الوزارة.
هل الأزمة في منظومة الثقافة بمصر أم وزارة الثقافة؟
الأزمة في المزاج العام، فهذا الكلام لا يتحمل مسئوليته الوزير الموجود حاليا، لأن هذا الأمر تراث طويل، ولا أقول ذلك خوفا منه أو رجاء لنفع، فأنا لا أريد شيئا علي الإطلاق، لكنني أنحني احتراما له عندما ينفذ ما سبقه إليه سلفه ويفعّل ما أصدره د.جابر من قرارات حينما اقتنع بضرورة الحفاظ علي المأثورات الشعبية. وفي الحقيقة؛ كل وزراء الثقافة الذين جاءوا منذ فاروق حسني إلي الآن أصدقاء أعزاء ونواياهم طيبة، لم يتأخر أي منهم عن شكري لجهودي وإلقاء الوعود، لكن بعدها لا يحدث شيء. لكي يكون هناك تخطيط ثقافي حقيقي، لابد من معرفة عناصر ثقافة هذا المجتمع الذي نخطط له، لذلك أريد أن أسأل أي مسئول موجود؛ ماذا يريد الشعب المصري ثقافيا؟ هل هم يعرفون خصائص ومكونات هذه الثقافة؟ لكي نفعل ذلك لابد أن نجمع ما يقوله الناس وعاداتهم وتقاليدهم وأنماط سلوكهم. ومثالاً علي ذلك أتساءل؛ لماذا فشلت كل برامج تنظيم الأسرة التي نفذت منذ الخمسينيات؟ لأنها لم تقم علي معرفة بالثقافة المصرية وعادات المصريين وتقاليدهم وارتباط هذا بأشياء أخري لا تدور في خلد الذين يقدمون هذا البرنامج. فهناك قاعدة في الطبيعة تقول أن الحيوانات القوية قليلة النسل والحيوانات الضعيفة كثيرة النسل، وبناء عليه؛ نجد أن الأسد لا ينجب 5 آلاف شبل بينما النمل والفئران ينجبون عشرات الملايين. ألم يتساءل أحد إن كان هذا ينطبق علي الناس؟! وأن الإنسان القوي لا ينجب كثيرا، والقوة هنا ليست مادية؛ وإنما صحة وتعليم و.....إلخ. لماذا يقول الإنسان المصري "العزوة حلوة"؟ لأنه ليس لديه تأمين صحي أو اقتصادي أو اجتماعي بشكل حقيقي، وعندما يمرض لن يقف بجانبه سوي أهله، لذلك كلما كانت الأسرة كبيرة أصبح هذا مصدر قوة ومهابة له. وفي الإطار الثقافي يقولون أيضا "أشوفهم عرايا ويجرو ورايا"، فالرجل لا يعتبر الولد أو البنت استهلاكا وإنما إنتاجا، لأنه يستغني بهم عن استئجار عامل لمساعدته، وإن لم يستغن به يؤجره لدي الغير.
كل تلك التقاليد لها دلالات توضح كيف يفكر الشعب ويعيش، يمكن للمخطط من خلالها أن يفهم كيفية التعامل معه، وبناء عليه؛ يتم التفكير في كيفية تغيير تلك المفاهيم من أجل المفهوم الجديد المراد تأكيده، لأن الإنسان المصري غير الأمريكي أو الأسترالي أو الأفريقي. هل يتم ذلك؟ لا؛ وإنما يأخذون استمارات أمريكية جاهزة ويترجمونها لعمل إحصائيات، وينتهي الأمر، ثم نلوم الناس في النهاية.
خلال 40 عاما مضت. هل قصّر المثقفون في حق أنفسهم؟
بل ظلموا أنفسهم وأهلهم، لأن معظمهم يتحدث عما يتمناه أو يراه هو وليس الناس، فعند  التخطيط للتنوير والتحديث؛ أليس من الضروري معرفة هؤلاء المراد تنويرهم؟ فالحداثة ليست تقليدا وإنما تكون نتيجة لتراكمات ثقافية واقتصادية وسياسية واجتماعية.
للأسف هناك فجوة بينهم وبين الشعب. وأبسط مثال علي ذلك؛ عندما يتحدثون ويقولون إن المثقفين لابد أن "ينزلوا" إلي الناس، أين هم لكي "ينزلوا"؟ فهناك فرق كبير بين قول يذهبون أو يفهمون أو يدرسون أو يختلطون، و"ينزلون" التي تعني أنهم طبقة في الأعلي سيتواضعون للنزول إلي الشعب.
لو كنت وزيرا للثقافة. ماذا ستكون أولوياتك لكي تصبح الثقافة جزءاً من الدخل القومي؟
أن أوجد كوادر تفهم الناس علي أساس علمي وبناء عليه أضع خططي. فقبل أن يبنوا المساكن الشعبية للناس مثلا؛ هل درسوا هؤلاء الشعبيين؟! لا؛ والنتيجة علب أسمنتية ضيقة ليس بها منافذ تهوية أو أي عنصر جمالي. لأنها شعبية، وفي تصور المخطط؛ هؤلاء لا يحتاجون سوي مكان يؤويهم أفضل من وجودهم بالشوارع. هذا المنطق الذي عاد بنا للوراء، ولا يتماشي مع رغبتنا في الرقي بهؤلاء الناس ومعهم.
ما دور وزارة الثقافة في ذلك؟
لابد أن تكون وزارة الثقافة مسئولة عن التخطيط الثقافي لهذا المجتمع، وهذا التخطيط لابد أن يقوم علي أساس علمي لمعرفة احتياجات الناس الثقافية وتصورهم لأنفسهم وللعالم المحيط بهم، فوزارة الثقافة لا تنتج ثقافة في أي دولة بالعالم، وإنما يكون لها رؤية سياسية بالدولة وتوفر المناخ الثقافي لتحقيق خططها.


http://tempuri.org/tempuri.html